سورة آل عمران - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}
اعلم أنه تعالى لما مدح المؤمنين وأثنى عليهم بقوله: {الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا} [آل عمران: 16] أردفه بأن بيّن أن دلائل الإيمان ظاهرة جلية، فقال: {شَهِدَ الله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: إعلم أن كل ما يتوقف العلم بنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم على العلم به، فإنه لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية أما ما يكون كذلك فإنه يجوز إثباته بالدلائل السمعية، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم، لكن العلم بصحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم لا يتوقف على العلم بكون الله تعالى واحداً فلا جرم يجوز إثبات كون الله تعالى واحداً بمجرد الدلائل السمعية القرآنية.
إذا عرفت هذا فنقول: ذكروا في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} قولين: أحدهما: أن الشهادة من الله تعالى، ومن الملائكة، ومن أولي العلم بمعنى واحد الثاني: أنه ليس كذلك، أما القول الأول فيمكن تقريره من وجهين:
الوجه الأول: أن تجعل الشهادة عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم، فهذا المعنى مفهوم واحد وهو حاصل في حق الله تعالى، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم، أما من الله تعالى فقد أخبر في القرآن عن كونه واحداً لا إله معه، وقد بينا أن التمسك بالدلالة السمعية في هذه المسألة جائز، وأما من الملائكة وأولي العلم فكلهم أخبروا أيضاً أن الله تعالى واحد لا شريك له، فثبت على هذا التقرير أن المفهوم من الشهادة معنى واحد في حق الله، وفي حق الملائكة، وفي حق أولي العلم.
الوجه الثاني: أن نجعل الشهادة عبارة عن الإظهار والبيان، ثم نقول: إنه تعالى أظهر ذلك وبينه بأن خلق ما يدل على ذلك، أما الملائكة وأولوا العلم فقد أظهروا ذلك، وبيّنوه بتقرير الدلائل والبراهين، أما الملائكة فقد بيّنوا ذلك للرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل للعلماء، والعلماء لعامة الخلق، فالتفاوت إنما وقع في الشيء الذي به حصل الإظهار والبيان، فالمفهوم الإظهار والبيان فهو مفهوم واحد في حق الله سبحانه وتعالى، وفي حق أولي العلم، فظهر أن المفهوم من الشهادة واحد على هذين الوجهين، والمقصود من ذلك كأنه يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن وحدانية الله تعالى أمر قد ثبت بشهادة الله تعالى، وشهادة جميع المعتبرين من خلقه، ومثل هذا الدين المتين والمنهج القويم، لا يضعف بخلاف بعض الجهال من النصارى وعبدة الأوثان، فاثبت أنت وقومك يا محمد على ذلك فإنه هو الإسلام والدين عند الله هو الإسلام.
القول الثاني: قول من يقول: شهادة الله تعالى على توحيده، عبارة عن أنه خلق الدلائل الدالة على توحيده، وشهادة الملائكة وأولي العلم عبارة عن إقرارهم بذلك، ولما كان كل واحد من هذين الأمرين يسمى شهادة، لم يبعد أن يجمع بين الكل في اللفظ، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى ياأيها الذين ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] ومعلوم أن الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة، ومن الملائكة غير الصلاة من الناس، مع أنه قد جمعهم في اللفظ.
فإن قيل: المدعي للوحدانية هو الله، فكيف يكون المدعي شاهداً؟.
الجواب: من وجوه:
الأول: وهو أن الشاهد الحقيقي ليس إلا الله، وذلك لأنه تعالى هو الذي خلق الأشياء وجعلها دلائل على توحيده، ولولا تلك الدلائل لما صحت الشهادة، ثم بعد ذلك نصب تلك الدلائل هو الذي وفق العلماء لمعرفة تلك الدلائل، ولولا تلك الدلائل التي نصبها الله تعالى وهدى إليها لعجزوا عن التوصل بها إلى معرفة التوحيد، وإذا كان الأمر كذلك كان الشاهد على الوحدانية ليس إلا الله وحده، ولهذا قال: {قُلْ أَىُّ شَيء أَكْبَرُ شهادة قُلِ الله} [الأنعام: 19].
الوجه الثاني: في الجواب أنه هو الموجود أزلاً وأبداً، وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صرفاً، ونفياً محضاً، والعدم يشبه الغائب، والموجود يشبه الحاضر، فكل ما سواه فقد كان غائباً، وبشهادة الحق صار شاهداً، فكان الحق شاهداً عل الكل، فلهذا قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ}.
الوجه الثالث: أن هذا وإن كان في صورة الشهادة، إلا أنه في معنى الإقرار، لأنه لما أخبر أنه لا إله سواه، كان الكل عبيداً له، والمولى الكريم لا يليق به أن لا يخل بمصالح العبيد، فكان هذا الكلام جارياً مجرى الإقرار بأنه يجب وجوب الكريم عليه أن يصلح جهات جميع الخلق.
الوجه الرابع: في الجواب قرأ ابن عباس {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} بكسر {إِنَّهُ} ثم قرأ {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] بفتح {أن} فعلى هذا يكون المعنى: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ويكون قوله: {أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} اعتراضاً في الكلام، واعلم أن الجواب لا يعتمد عليه، لأن هذه القراءة غير مقبولة عند العلماء، وبتقدير {أن} تكون مقبولة لكن القراءة الأولى متفق عليها، فالإشكال الوارد عليها لا يندفع بسبب القراءة الأخرى.
المسألة الثانية: المراد من {أُوْلِى العلم} في هذه الآية الذين عرفوا وحدانيته بالدلائل القاطعة لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار مقروناً بالعلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» وهذا يدل على أن هذه الدرجة العالية والمرتبة الشريفة ليست إلا لعلماء الأصول.
أما قوله تعالى: {قَائِمَاً بالقسط} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: {قَائِمَاً بالقسط} منتصب، وفيه وجوه:
الوجه الأول: نصب على الحال، ثم فيه وجوه:
أحدها: التقدير: شهد الله قائماً بالقسط.
وثانيها: يجوز أن يكون حالا من هو تقديره: لا إله إلا هو قائماً بالقسط، ويسمى هذا حالاً مؤكدة كقولك: أتانا عبد الله شجاعاً، وكقولك: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً.
الوجه الثاني: أن يكون صفة المنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو، وهذا غير بعيد لأنهم يفصلون بين الصفة والموصوف.
والوجه الثالث: أن يكون نصباً على المدح.
فإن قيل: أليس من حق المدح أن يكون معرفة، كقولك، الحمد لله الحميد.
قلنا: وقد جاء نكرة أيضاً، وأنشد سيبويه:
ويأوي إلى نسوة عطل *** وشعثاً مراضع مثل السعالي
المسألة الثانية: قوله: {قَائِمَاً بالقسط} فيه وجهان الأول: أنه حال من المؤمنين والتقدير: وأولوا العلم حال كون كل واحد منهم قائماً بالقسط في أداء هذه الشهادة والثاني: وهو قول جمهور المفسرين أنه حال من {شَهِدَ الله}.
المسألة الثالثة: معنى كونه {قَائِمَاً بالقسط} قائماً بالعدل، كما يقال: فلان قائم بالتدبير، أي يجريه على الاستقامة.
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين، أما المتصل بالدين، فانظر أولاً في كيفية خلقة أعضاء الإنسان، حتى تعرف عدل الله تعالى فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح، والغنى والفقر والصحة والسقم، وطول العمر وقصره واللذة والآلام واقطع بأن كل ذلك عدل من الله وحكمة وصواب ثم انظر في كيفية خلقة العناصر وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين وخاصية معينة، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب، أما ما يتصل بأمر الدين، فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط، ولقد خاض صاحب الكشاف هاهنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وكان ذلك المسكين بعيداً عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف، وزعم أن الآية دلّت على أن من أجاز الرؤية، أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام، والعجب أن أكابر المعتزلة وعظماءهم أفنوا أعمارهم في طلب الدليل على أنه لو كان مرئياً لكان جسماً، وما وجدوا فيه سوى الرجوع إلى الشاهد من غير جامع عقلي قاطع، فهذا المسكين الذي ما شم رائحة العلم من أين وجد ذلك، وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه، لأنه لما اعترف بأن الله تعالى عالم بجميع الجزئيات، واعترف بأن العبد لا يمكنه أن يقلب علم الله جهلاً، فقد اعترف بهذا الجبر، فمن أين هو والخوض في أمثال هذه المباحث.
ثم قال الله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} والفائدة في إعادته وجوه:
الأول: أن تقدير الآية: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وإذا شهد بذلك فقد صح أنه لا إله إلا هو، ونظيره قول من يقول: الدليل دلّ على وحدانية الله تعالى، ومتى كان كذلك صح القول بوحدانية الله تعالى الثاني: أنه تعالى لما أخبر أن الله شهد أنه لا إله إلا هو وشهدت الملائكة وأولوا العلم بذلك صار التقدير، كأنه قال: يا أمة محمد فقولوا أنتم على وفق شهادة الله وشهادة الملائكة وأولي العلم لا إله إِلا هو فكان الغرض من الإعادة الأمر بذكر هذه الكلمة على وفق تلك الشهادات الثالث: فائدة هذا التكرير الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون أبداً في تكرير هذه الكلمة فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر الأوقات مشتغلاً بذكرها وبتكريرها كان مشتغلاً بأعظم أنواع العبادات، فكان الغرض من التكرير في هذه الآية حث العباد على تكريرها الرابع: ذكر قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أولاً: ليعلم أنه لا تحق العبادة إلا لله تعالى، وذكرها ثانيا: ليعلم أنه القائم بالقسط لا يجور ولا يظلم.
أما قوله: {العزيز الحكيم} فالعزيز إشارة إلى كمال القدرة، والحكيم إشارة إلى كمال العلم، وهما الصفتان اللتان يمتنع حصول الإلهية إلا معهما لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات، وكان قادراً على تحصيل المهمات، وقدم العزيز على الحكيم في الذكر، لأن العلم بكونه تعالى قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الإستدلالية، فلما كان مقدماً في المعرفة الإستدلالية، وكان هذا الخطاب مع المستدلين، لا جرم قدم تعالى ذكر العزيز على الحكيم.


{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآَيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اتفق القرّاء على كسر {أن} إلا الكسائي فإنه فتح {أن} وقراءة الجمهور ظاهرة، لأن الكلام الذي قبله قد تم، وأما قراءة الكسائي فالنحويون ذكروا فيه ثلاثة أوجه: الأول: أن التقدير: شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام وذلك لأن كونه تعالى واحداً موجب أن يكون الدين الحق هو الإسلام لأن دين الإسلام هو المشتمل على هذه الوحدانية والثاني: أن التقدير: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأن الدين عند الله الإسلام الثالث: وهو قول البصريين أن يجعل الثاني بدلاً من الأول، ثم إن قلنا بأن دين الإسلام مشتمل على التوحيد نفسه كان هذا من باب قولك: ضربت زيداً نفسه، وإن قلنا: دين الإسلام مشتمل على التوحيد كان هذا من باب بدل الاشتمال، كقولك: ضربت زيداً رأسه.
فإن قيل: فعلى هذا الوجه وجب أن لا يحسب إعادة اسم الله تعالى كما يقال: ضربت زيداً رأس زيد.
قلنا: قد يظهرون الاسم في موضع الكناية، قال الشاعر:
لا أرى الموت يسبق الموت شي ***
وأمثاله كثيرة.
المسألة الثانية: في كيفية النظم من قرأ {أَنَّ الدّينَ} بفتح {أن} كان التقدير: شهد الله لأجل أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام، فإن الإسلام إذا كان هو الدين المشتمل على التوحيد، والله تعالى شهد بهذه الوحدانية كان اللازم من ذلك أن يكون الدين عند الله الإسلام، ومن قرأ {إِنَّ الدّينَ} بكسر الهمزة، فوجه الاتصال هو أنه تعالى بيّن أن التوحيد أمر شهد الله بصحته، وشهد به الملائكة وأولوا العلم، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يقال: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام}.
المسألة الثالثة: أصل الدين في اللغة الجزاء، ثم الطاعة تسمى ديناً لأنها سبب الجزاء، وأما الإسلام ففي معناه في أصل اللغة أوجه:
الأول: أنه عبارة عن الدخول في الإسلام أي في الانقياد والمتابعة، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السلام} [النساء: 94] أي لمن صار منقاداً لكم ومتابعاً لكم والثاني: من أسلم أي دخل في السلم، كقولهم: أسنى وأقحط وأصل السلم السلامة الثالث: قال ابن الأنباري: المسلم معناه المخلص لله عبادته من قولهم: سلم الشيء لفلان، أي خلص له فالإسلام معناه إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى، هذا ما يتعلق بتفسير لفظ الإسلام في أصل اللغة، أما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان، والدليل عليه وجهان الأول: هذه الآية فإن قوله: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} يقتضي أن يكون الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمان غير الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله، ولا شك في أنه باطل الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فلو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله تعالى.
فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] هذا صريح في أن الإسلام مغاير للإيمان.
قلنا: الإسلام عبارة عن الانقياد في أصل اللغة على ما بينا، والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف، فلا جرم كان الإسلام حاصلاً في حكم الظاهر، والإيمان كان أيضاً حاصلاً في حكم الظاهر، لأنه تعالى قال: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] والإيمان الذي يمكن إدارة الحكم عليه هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا الإسلام والإيمان تارة يعتبران في الظاهر، وتارة في الحقيقة، والمنافق حصل له الإسلام الظاهر، ولم يحصل له الإسلام الباطن، لأن باطنه غير منقاد لدين الله، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمنا في الظاهر، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} فيه مسائل:
المسألة الأولى: الغرض من الآية بيان إن الله تعالى أوضح الدلائل، وأزال الشبهات والقوم ما كفروا إلا لأجل التقصير، فقوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} فيه وجوه:
الأول: المراد بهم اليهود، واختلافهم أن موسى عليه السلام لما قربت وفاته سلم التوراة إلى سبعين حبراً، وجعلهم أمناء عليها واستخلف يوشع، فلما مضى قرن بعد قرن اختلف أبناء السبعين من بعد ما جاءهم العلم في التوراة بغياً بينهم، وتحاسدوا في طلب الدنيا والثاني: المراد النصارى واختلافهم في أمر عيسى عليه السلام بعد ما جاءهم العلم بأنه عبد الله ورسوله والثالث: المراد اليهود والنصارى واختلافهم هو أنه قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله وأنكروا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا: نحن أحق بالنبوّة من قريش، لأنهم أميون ونحن أهل الكتاب.
المسألة الثانية: قوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ العلم} المراد منه إلا من بعد ما جاءتهم الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم، لأنا لو حملناه على العلم لصاروا معاندين والعناد على الجمع العظيم لا يصح، وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب وهم جمع عظيم.
المسألة الثالثة: في انتصاب قوله: {بَغِيّاً} وجهان الأول: قول الأخفش إنه انتصب على أنه مفعول له أي للبغي كقولك: جئتك طلب الخير ومنع الشر والثاني: قول الزجاج إنه انتصب على المصدر من طريق المعنى، فإن قوله: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب} قائم مقام قوله: وما بغى الذين أوتوا الكتاب فجعل {بَغِيّاً} مصدراً، والفرق بين المفعول له وبين المصدر أن المفعول له غرض للفعل، وأما المصدر فهو المفعول المطلق الذي أحدثه الفاعل.
المسألة الرابعة: قال الأخفش قوله: {بَغْياً بَيْنَهُمْ} من صلة قوله: {اختلف} والمعنى: وما اختلفوا بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، وقال غيره: المعنى وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم إلا للبغي بينهم، فيكون هذا إخباراً عن أنهم إنما اختلفوا للبغي، وقال القفال: وهذا أجود من الأول، لأن الأول: يوهم أنهم اختلفوا بسبب ما جاءهم من العلم، والثاني: يفيد أنهم إنما اختلفوا لأجل الحسد والبغي.
ثم قال تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بآيات الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} وهذا تهديد، وفيه وجهان:
الأول: المعنى فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً فيحاسبه أي يجزيه على كفره والثاني: أن الله تعالى سيعلمه بأعماله ومعاصيه وأنواع كفره بإحصاء سريع مع كثرة الأعمال.


{فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)}
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وأنهم أصروا على الكفر مع ذلك بيّن الله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في محاجتهم، فقال: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} وفي كيفية إيراد هذا الكلام طريقان:
الطريق الأول: أن هذا إعراض عن المحاجة، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد أظهر لهم الحجة على صدقه قبل نزول هذه الآية مراراً وأطواراً، فإن هذه السورة مدنيّة، وكان قد أظهر لهم المعجزات بالقرآن، ودعاء الشجرة وكلام الذئب وغيرها، وأيضاً قد ذكر قبل هذه الآية آيات دالة على صحة دينه، فأولها: أنه تعالى ذكر الحجة بقوله: {الحى القيوم} على فساد قول النصارى في إلهية عيسى عليه السلام وبقوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق} [آل عمران: 3] على صحة النبوّة، وذكر شبه القوم، وأجاب عنها بأسرها على ما قررناه فيما تقدم، ثم ذكر لهم معجزة أخرى، وهي المعجزات التي شاهدوها يوم بدر على ما بيناه في تفسير قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ ءايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} [آل عمران: 13] ثم بيّن صحة القول بالتوحيد، ونفى الضد والند والصاحبة والولد بقوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] ثم بيّن تعالى أن ذهاب هؤلاء اليهود والنصارى عن الحق، واختلافهم في الدين، إنما كان لأجل البغي والحسد، وذلك ما يحملهم على الانقياد للحق والتأمل في الدلائل لو كانوا مخلصين، فظهر أنه لم يبق من أسباب إقامة الحجة على فرق الكفار شيء إلا وقد حصل، فبعد هذا قال: {فَإنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن} يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل، وإيضاح البينات، فإن تركتم الأنف والحسد، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم، وهذا التأويل طريق معتاد في الكلام، فإن المحق إذا ابتلى بالمبطل اللجوج، وأورد عليه الحجة حالاً بعد حال، فقد يقول في آخر الأمر: أما أنا ومن اتبعني فمنقادون للحق، مستسلمون له، مقبلون على عبودية الله تعالى، فإن وافقتم واتبعتم الحق الذي أنا عليه بعد هذه الدلائل التي ذكرتها فقد اهتديتم، وإن أعرضتم فإن الله بالمرصاد، فهذا الطريق قد يذكره المحتج المحق مع المبطل المصر في آخر كلامه.
الطريق الثاني: وهو أن نقول: إن قوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} محاجة، وإظهار للدليل، وبيانه من وجوه:
الوجه الأول: أن القوم كانوا مقرين بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال للقوم: هذا متفق عليه بين الكل فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه وداع للخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك وأنتم المدعون فعليكم الاثبات، فإن اليهود يدعون التشبيه والجسمية، والنصارى يدعون إلهية عيسى، والمشركين يدعون وجوب عبادة الأوثان فهؤلاء هم المدعون لهذه الأشياء فعليهم إثباتها، وأما أنا فلا أدعي إلا وجوب طاعة الله تعالى وعبوديته، وهذا القدر متفق عليه، ونظيره هذه الآية قوله تعالى: {ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران: 64].
والوجه الثاني: في كيفية الاستدلال ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرين بتعظيم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، والإقرار بأنه كان محقاً في قوله صادقاً في دينه، إلا في زيادات من الشرائع والأحكام، فأمر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يتبع ملته فقال: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إبراهيم حَنِيفًا} [النحل: 123] ثم إنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حيث قال: {إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والأرض} [الأنعام: 79] فقول محمد صلى الله عليه وسلم: {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ} كقول إبراهيم عليه السلام {وَجَّهْتُ وَجْهِىَ} أي اعترضت عن كل معبود سوى الله تعالى، وقصدته بالعبادة وأخلصت له، فتقدير الآية كأنه تعالى قال: فإن نازعوك يا محمد في هذه التفاصيل فقل: أنا مستمسك بطريقة إبراهيم، وأنتم معترفون بأن طريقته حقة، بعيدة عن كل شبهة وتهمة، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات، وداخلاً تحت قوله: {وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل: 125].
والوجه الثالث: في كيفية الاستدلال ما خطر ببالي عند كتبة هذا الموضع، وهو أنه ادعى قبل هذه الآية أن الدين عند الله الإسلام لا غير، ثم قال: {فَإنْ حَاجُّوكَ} يعني فإن نازعوك في قولك {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] فقل: الدليل عليه أني أسلمت وجهي لله، وذلك لأن المقصود من الدين إنما هو الوفاء بلوازم الربوبية، فإذا أسلمت وجهي لله فلا أعبد غيره ولا أتوقع الخير إلا منه ولا أخاف إلا من قهره وسطوته، ولا أشرك به غيره، كان هذا هو تمام الوفاء بلوازم الربوبية والعبودية، فصح أن الدين الكامل هو الإسلام، وهذا الوجه يناسب الآية.
الوجه الرابع: في كيفية الاستدلال، ما خطر ببالي أن هذه الآية مناسبة لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] يعني لا تجوز العبادة إلا لمن يكون نافعاً ضاراً، ويكون أمري في يديه، وحكمي في قبضة قدرته، فإن كان كل واحد يعلم أن عيسى ما كان قادراً على هذه الأشياء امتنع في العقل أن أسلم له، وأن انقاد له، وإنما أسلم وجهي للذي منه الخير، والشر، والنفع، والضر، والتدبير، والتقدير.
الوجه الخامس: يحتمل أيضاً أن يكون هذا الكلام إشارة إلى طريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبّ العالمين} [البقرة: 131] وهذا مروي عن ابن عباس.
أما قوله: {أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} ففيه وجوه:
الأول: قال الفرّاء أسلمت وجهي لله، أي أخلصت عملي لله يقال أسلمت الشيء لفلان أي أخلصته له، ولم يشاركه غيره قال: ويعني بالوجه هاهنا العمل كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] أي عبادته، ويقال: هذا وجه الأمر أي خالص الأمر وإذا قصد الرجل غيره لحاجة يقول: وجهت وجهي إليك، ويقال للمنهمك في الشيء الذي لا يرجع عنه: مرّ على وجهه الثاني: أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه الثالث: أسلمت وجهي لله أي أسلمت نفسي لله وليس في العبادة مقام أعلى من إسلام النفس لله فيصير كأنه موقوف على عبادته، عادل عن كل ما سواه.
وأما قوله: {وَمَنِ اتبعن} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: حذف عاصم وحمزة والكسائي، الياء من اتبعن اجتزاء بالكسر واتباعاً للمصحف، وأثبته الآخرون على الأصل:
المسألة الثانية: {مِنْ} في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله: {أَسْلَمْتُ} أي ومعنى اتبعني أسلم أيضاً.
فإن قيل: لم قال أسلمت ومن اتبعن، ولم يقل: أسلمت أنا ومن اتبعن.
قلنا: إن الكلام طال بقوله: {وَجْهِىَ للَّهِ} فصار عوضاً من تأكيد الضمير المتصل، ولو قيل أسلمت وزيد لم يحسن حتى يقال: أسلمت أنا وزيد ولو قال أسلمت اليوم بانشراح صدر، ومن جاء معي جاز وحسن.
ثم قال تعالى: {وَقُلْ لّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والاميين ءَأَسْلَمْتُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب، سواء كان محقاً في تلك الدعوى كاليهود والنصارى، أو كان كاذباً فيه كالمجوس، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان.
المسألة الثانية: إنما وصف مشركي العرب بأنهم أميون لوجهين:
الأول: أنهم لما لم يدعوا الكتاب الإلهي وصفوا بأنهم أُميون تشبيهاً بمن لا يقرأ ولا يكتب والثاني: أن يكون المراد أنهم ليسوا من أهل القراءة والكتابة فهذه كانت صفة عامتهم وإن كان فيهم من يكتب فنادر من بينهم والله أعلم.
المسألة الثالثة: دلّت هذه الآية على أن المراد بقوله: {فَان حاجوك} عام في كل الكفار، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله: {الذين أُوتُواْ الكتاب} ودخل من لا كتاب له تحت قوله: {الأميين}.
ثم قال الله تعالى: {ءَأَسْلَمْتُمْ} فهو استفهام في معرض التقرير، والمقصود منه الأمر قال النحويون: إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة، وهي التعبير بكون المخاطب معانداً بعيداً عن الانصاف، لأن المنصف إذا ظهرت له الحجة لم يتوقف بل في الحال يقبل ونظيره قولك لمن لخصت له المسألة في غاية التلخيص والكشف والبيان؛ هل فهمتها؟ فإن فيه الإشارة إلى كون المخاطب بليداً قليل الفهم، وقال الله تعالى في آية الخمر: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] وفيه إشارة إلى التقاعد عن الانتهاء والحرص الشديد على تعاطي المنهي عنه.
ثم قال الله تعالى: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} وذلك لأن هذا الإسلام تمسك بما هدي إليه، والمتمسك بهداية الله تعالى يكون مهتدياً، ويحتمل أن يريد: فقد اهتدوا للفوز والنجاة في الآخرة إن ثبتوا عليه ثم قال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} عن الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} والغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه، وليس عليه قبولهم ثم قال: {والله بَصِيرٌ بالعباد} وذلك يفيد الوعد والوعيد، وهو ظاهر.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9